لئن أضافت الحضارة العربيّة الإسلاميّة الكثير إلى الحضارة الإنسانية فيما يتّصل بالتفكير العلمي ( نظريّة و ممارسة ) فإنّها قد أبدعت و أجادت في مجال الأدب و الفنّ، و هو ما جعلها حضارة رائدة... لها مُساهمة هامّة في إثراء الإنسانيّة و في إكساب الإنسان المزيد من الخبرات و التجارب.
فأين تظهر مُساهمة العرب في إثراء الحضارة الإنسانيّة أدبا و فنّا؟
i- الأدب:
يُمكن تقسيم الأدب إلى فرعين: نثر و شعر
1- النثر:
إنّ الدّلائل على براعة العرب في النثر كثيرة و متعدّدة رغم تأخّر الحضارة العربيّة الإسلاميّة في الانتقال من ثقافة المشافهة إلى ثقافة التدوين.
· كتاب " كليلة و دمنة ": إنّ ترجمة عبد الله بن المقفّع لهذا الكتاب ( نقله عن اللّغة الفارسيّة ) لا تنفي عن العرب صفة الإبداع فيه، ذلك أنّ ابن المقفّع لم يكتف بمحاكاة النصّ الأصليّ و لكنّه قام بعدّة تغييرات عليه، سواء أكان ذلك بتغيير ترتيب بعض الأبواب أم بإضافة أمثال أخرى و أبواب جديدة. و هو ما جعل " كليلة و دمنة " يحمل بصمات مترجمه أكثر من حمله لآثار كاتبه الأصلي. و قد عُرِف هذا الكتاب في الغرب عن طريق ابن المقفّع ( أصبح كتابا عابرا للزّمان و المكان )
· كتاب: " ألف ليلة و ليلة ": قام العرب بترجمة هذا الكتاب عن الفارسيّة، و قد كان كتابا صغيرا يحتوي على بضعة قصص و حكايات. و لكنّ العرب عن طريق استراتيجيّة التفريع و التوليد جعلوا هذا الكتاب أثرا ضخما يحتوي على عدد كبير من القصص و الحكايات. و قد أصبح هذا الكتاب من النصوص المعالم التّي اخترقت حدود الزّمان و المكان.
· كتاب: " رسالة الغفران " للمعرّي: أصبحت هذه الرّسالة أثرا عابرا للزّمان و المكان، و ارتقت إلى مصاف النّصوص المعالم. و دليلنا على ذلك " الكوميديا الإلهيّة " للكاتب الإيطالي " دانتي " ( المعرّي كتب رسالته قبل " دانتي " بقرون ) و التّي أجمع النقّاد أنّها مُقتبسة من رسالة الغُفران. ذلك أنّ رسالة الغفران هي رحلة خياليّة إلى الدّار الآخرة، إلى الجنّة ثمّ إلى الجحيم، و الكوميديا الإلهيّة هي الشيء نفسه، لكنّها تبدأ بالجحيم. و المعرّي اتّخذ له بطلا لرحلته هو " ابن القارح " و " دانتي " اتّخذ الشّاعر الرّوماني " فرجيل " رفيقا. و رحلة المعرّي تقوم على حوارات مع شعراء و أدباء، و رحلة " دانتي " كذلك تقوم على حوارات مع فلاسفة و أدباء.
2- الشّعر:
إنّ المُمارسة النصيّة الشعريّة مُوغلة في القدم انطلاقا من العصر الجاهلي الذّي برع فيه الكثير من الشعراء ( عمرو بن كلثوم، عنترة بن شدّاد، طرفة بن العبد...) و كان القول الشعري في هذه المرحلة يتجاوز وظيفة التعبير عن مشاعر الشّاعر و أحاسيسه أو تمجيد مآثر القبيلة و بطولاتها، ليكون ذا بُعد قدسيّ يتّصل بدور الكلمة ( المعلّقات: أجود القصائد التّي كانت تُكتبُ بماء الذّهب و تُعلّق على جُدران الكعبة / الكلمة حسب التصوّر القديم فعل خلق و تكوين: الشعر بهذا المعنى يضطلع بوظيفتي الخلق و البعث ) و ذا بُعد حضاريّ ( الشّعر مُحدّد هويّة العربيّ فهو يختزن تاريخه و عاداته و ثقافته و لغته و قيمه...: هذا ما يُفسّر قولهم: " الشّعر ديوان العرب " )
و قد استمرّ اهتمام العرب بالشّعر بعد حدث الإسلام، و الأدلّة على ذلك كثيرة، منها تلك النّصوص الشّعريّة التّي ارتقت إلى مصاف الإبداع و منها ذلك العدد الكبير من الشعراء المتميّزين ( أبو نواس، المتنبّي...)
هذا الوضع جعل العرب يتجاوزون إطار الممارسة الإبداعيّة و المُنجز الأدبي إلى إطار التنظير و التقنين و التقعيد.
و قد استفاد الشّعر العالمي من هذا الإبداع الشّعري العربي: ممارسة و تنظيرا
يقول " بوشكين " حول تأثير الشّعر العربي في الشّعر الأوروبي:"هناك عاملان كان لهما تأثير حاسم على روح الشّعر الأوربي هما : غزو العرب، والحروب الصليبيّة. فقد أوحى العرب إلى الشّعر بالنشوة الروحيّة ورقة الحبّ، والولع بالرائع والبلاغة الفخمة للشرق…هكذا كانت البداية الرقيقة للشعر الرومنطيقي."
يُعتبرُ " بوشكين " أكبر شعراء روسيا في القرن التّاسع عشر و أكثرهم حبّا للشّرق العربيّ و تأثّرا به. و قد وظّف هذا الشّاعر عناصر الغزل العذريّ في الشّعر العربيّ ( قصيدة: " يا فتاة يا وردة، إنّني في الأغلال " )
يُعتبَرُ " غوته " من أعظم الشّعراء الألمان، تأثّرا بالشّعر العربي الإسلامي و بالقرآن. و قد نظم قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبيّ محمّد ( ص )
ii- الفنّ:
إنّ مُقاربة مسألة الفنّ عند العرب، تستوجبُ بداهة الإشارة إلى تأثّر تطوّر هذه الظّاهرة تاريخيّا بفهم النصّ الدّيني، ذلك أنّ كثيرا من الأحاديث النبويّة كانت " تستنكرُ " أو " تستهجنُ " بعض الممارسات الفنيّة من قبيل الرّسم و النّحت و الموسيقى.
و هو ما استوجب ردود أفعال كانت مُتّصلة بدرجة فهم النصّ الدّينيّ. فهناك من نظر إلى هذه النّصوص من باب التّحريم المُطلق و هناك من أرجعها إلى ظروف خاصّة قِيلت فيها ( حداثة عهد المسلمين بالإسلام ممّا جعل الرّسول ( ص ) يخشى أن تَصرِف هذه الفنون بعض المسلمين عن الإسلام )
لكنّ هذه السّمة التّي حدّدت تطوّر الفنّ عند العرب المُسلمين، لا يُمكن أن تحجب عنّا براعتهم الفنيّة و إبداعهم في بعض الفنون، و هذا ما ساهم في إثراء الإنسانيّة في هذا الصّعيد.
1- الموسيقى: ( فنّ سمعيّ )
اشتهر العرب منذ العصر الجاهلي بفنّ الغناء و الشّعر. فالشّعر الجاهليّ، بما امتاز به من موسيقى و إيقاع بسبب الأوزان و القوافي، قد منح العربيّ ذوقا رفيعا في الموسيقى و الغناء، و أذنا تتقبّل الإيقاعات التّي تتّفق مع ذوقه الموسيقي.
ثمّ تطوّر هذا الفنّ الموسيقي في ركب الحضارة العربيّة الإسلاميّة حتّى بلغ ذروة مجده. و إذا ما تطلّعنا إلى هذا التطوّر، فإنّنا نذهل لضخامة الإبداع الذّي أظهره العربيّ في هذا المجال من إتقان للسلّم المُوسيقي و الآلات الموسيقيّة.
و قد حقّق العرب مُنجزات كبيرة في علم الحِيَل و تقنية الآلات و جعلوا من صناعة الآلات الموسيقيّة فنّا رفيعا. فزلزل أدخل العود الشبوطي، و الزنام رسم آلة هوائيّة تُسمّى ناي زنامي، و أضاف زرياب إلى أوتار العود الأربعة وترا خامسا، و اخترع مضراب العود من قوادم النّسر بعد أن كان من مرهن الخشب. و في أواخر القرن التاسع الميلادي وضع أبناء موسى بن شاكر أسس الموسيقى الميكانيكيّة و قواعدها و استعملوا البريخ الموسيقي لتوزيع الألحان، هذه الموسيقى التّي لم تظهر بوادرها في أوروبا إلاّ في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. و في القرن العاشر الميلادي ابتكر الفارابي الربابة و القانون. و أمّا صفيّ الدّين عبد المؤمن الأرموي فقد اخترع القانون المربّع المسمّى نزهة و آلة أخرى تسمّى المغنى.
2- الرّسم: ( فنّ بصريّ )
كان مُعظم الفنّ الإسلاميّ خلال التاريخ الإسلامي عبارة عن فنّ تجريديّ مُمثّلا بالأشكال الهندسيّة و الزّهور و الأرابيسك و فنون الخطّ العربي. لا يشتمل الفنّ الإسلاميّ على الكثير من الرسوم لبشر بما في ذلك رسول الإسلام محمّد ( ص ). و ذلك يعود للاعتقاد الإسلامي المُبكّر بأنّ ذلك شكل من التمثيل يعود بالنّاس إلى الوثنيّة و عبادة الأصنام.
أهمّ سمات الفنّ الإسلامي هي الفلسفة التّي يقوم عليها من حيث الاعتقاد، فالمسلم يرى الله بقوّته و عظمته و رحمته هو مركز الكون و كلّ شيء يبدأ منه ليعود إليه. يُرى ذلك جليّا في استخدام النقوش المُتوالدة و المُتناظرة التّي تتمركز حول عُنصر لتدور و تعود لنفس التكوين.
الفنّ الإسلاميّ ليس فنّا دعويّا كما في المسيحيّة و لكنّه نفعيّ بالدّرجة الأولى، بمعنى أنّه يُحاولُ تجميل القطع النفعيّة للاستخدامات اليوميّة دُون قصد جعلها تُحفة موضوعة على رفّ الزّينة فقط.
· فنّ الخطّ: تتميّز الكتابة العربيّة بكونها متصلة ممّا يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المدّ والرّجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب. يعتمد الخط العربي جماليّا على قواعد خاصّة تنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة، وتُستخدم في أدائه فنيا العناصر نفسها التّي تعتمدها الفنون التشكيليّة الأخرى. أخذت الخطوط العربيّة مناهج عدّة في التسمية. فسُمّيت إمّا نسبة إلى أسماء المدن كالنبطي والكوفي والحجازي والفارسي، أو أسماء مُبدعيها، كالياقوتي (المستعصمي)، والريحاني والرياسي، والغزلاني، كما سُمّيت أيضا نسبة مقادير الخط، كخط الثلث ثلث والنصف والثلثين، إضافة إلى تسميته نسبة إلى الأداة التي تسطره، كخط لغبار، وكذلك نسبة إلى هيئة الخط كخط المسلسل.
تطوّر الخطّ العربيّ كان مُرتبطا بحاجة دينيّة: كتابة النصّ القرآني المُقدّس بأبهى حُلّة ( الخطّ العربيّ مُمارسة ترتقي إلى قمّة التجريد )
· فنّ الأرابيسك: الأشكال الهندسيّة الزخرفيّة التّي كانت تُطرّز المباني الإسلاميّة.
إنّ ما يُشير إليه مفهوم الأرابيسك هو ظاهرة معروفة أساسا في تاريخ الفنون الإسلاميّة، إنّها ظاهرة الابتعاد عن تمثيل الشخوص و الأرواح و الانحياز للألوان و الخطوط و الأشكال الهندسيّة الزخرفيّة. و معروف ما نتج عن هذا الابتعاد من فنون زخرفيّة و اهتمام بأنواع الخطّ أو التشكيل الحروفيّ ممّا نجد على أستار الكعبة المشرّفة و في ردهات الجوامع و القصور العربيّة في كلّ انحاء العالم الإسلامي.
هذه النّظرة إلى الفنون الإسلاميّة أدّت إلى مقارنات بينها و بين الفنون الغربيّة كالرّسم و النّحت فبالمقارنة برزت عناصر التجسيم و التمثيل أو المحاكاة في تلك الفنون بوصفها عناصر طاغية لدى الغرب، لا سيما في عصر النهضة الأوروبي، في مقابل غياب تلك العناصر عن الفنون الإسلاميّة. و كان طبيعيّا أن تتفرّع من تلك المقارنة مواقف مختلفة، ففي حين ظلّ الكثيرون يعتزون بفنون أوروبا و يرونها المثال الأعلى، كان هناك من يروْن في الفنون الإسلاميّة تفوّقا من حيث هي تمثّل إخلاصا للفنّ أو تجلّيا للفنّ الخالص. فحين تنتفي الطبيعة و ما يتّصل بها من أشكال إنسانيّة و حيوانيّة تنتفي علاقة الفنّ بما يخرج عن طبيعته. أي ينصرف الفنّ إلى كونه فنّا و تصير نظرتُه إلى الدّاخل. و قد لاقت هذه النظرة هوى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد حين طغى الاتّجاه الفنّي الخالص أو ما يُعرفُ بالفنّ من أجل الفنّ في أوروبا. و كان من أبرز ممثّلي ذلك الاتّجاه الكاتب الإيرلندي " أوسكار وايلد " الذّي وجّه نقدا حادّا لتاريخ الفنون الغربيّة من هذه الزاوية مُطالبا بالاقتداء بالفنون الإسلاميّة. قال وايلد إنّ الفنون تنحدر حين تسعى إلى التشبيه و التمثيل فتُحاكي الطبيعة، كما هو الحال في إيطاليا عصر النهضة، لكنّها تعلو حين تُخلصُ لذاتها فلا تُحاكي إلاّ نفسها كما تجلّى ذلك في الفنون الإسلاميّة أو الشرقيّة كما أسماها
فأين تظهر مُساهمة العرب في إثراء الحضارة الإنسانيّة أدبا و فنّا؟
i- الأدب:
يُمكن تقسيم الأدب إلى فرعين: نثر و شعر
1- النثر:
إنّ الدّلائل على براعة العرب في النثر كثيرة و متعدّدة رغم تأخّر الحضارة العربيّة الإسلاميّة في الانتقال من ثقافة المشافهة إلى ثقافة التدوين.
· كتاب " كليلة و دمنة ": إنّ ترجمة عبد الله بن المقفّع لهذا الكتاب ( نقله عن اللّغة الفارسيّة ) لا تنفي عن العرب صفة الإبداع فيه، ذلك أنّ ابن المقفّع لم يكتف بمحاكاة النصّ الأصليّ و لكنّه قام بعدّة تغييرات عليه، سواء أكان ذلك بتغيير ترتيب بعض الأبواب أم بإضافة أمثال أخرى و أبواب جديدة. و هو ما جعل " كليلة و دمنة " يحمل بصمات مترجمه أكثر من حمله لآثار كاتبه الأصلي. و قد عُرِف هذا الكتاب في الغرب عن طريق ابن المقفّع ( أصبح كتابا عابرا للزّمان و المكان )
· كتاب: " ألف ليلة و ليلة ": قام العرب بترجمة هذا الكتاب عن الفارسيّة، و قد كان كتابا صغيرا يحتوي على بضعة قصص و حكايات. و لكنّ العرب عن طريق استراتيجيّة التفريع و التوليد جعلوا هذا الكتاب أثرا ضخما يحتوي على عدد كبير من القصص و الحكايات. و قد أصبح هذا الكتاب من النصوص المعالم التّي اخترقت حدود الزّمان و المكان.
· كتاب: " رسالة الغفران " للمعرّي: أصبحت هذه الرّسالة أثرا عابرا للزّمان و المكان، و ارتقت إلى مصاف النّصوص المعالم. و دليلنا على ذلك " الكوميديا الإلهيّة " للكاتب الإيطالي " دانتي " ( المعرّي كتب رسالته قبل " دانتي " بقرون ) و التّي أجمع النقّاد أنّها مُقتبسة من رسالة الغُفران. ذلك أنّ رسالة الغفران هي رحلة خياليّة إلى الدّار الآخرة، إلى الجنّة ثمّ إلى الجحيم، و الكوميديا الإلهيّة هي الشيء نفسه، لكنّها تبدأ بالجحيم. و المعرّي اتّخذ له بطلا لرحلته هو " ابن القارح " و " دانتي " اتّخذ الشّاعر الرّوماني " فرجيل " رفيقا. و رحلة المعرّي تقوم على حوارات مع شعراء و أدباء، و رحلة " دانتي " كذلك تقوم على حوارات مع فلاسفة و أدباء.
2- الشّعر:
إنّ المُمارسة النصيّة الشعريّة مُوغلة في القدم انطلاقا من العصر الجاهلي الذّي برع فيه الكثير من الشعراء ( عمرو بن كلثوم، عنترة بن شدّاد، طرفة بن العبد...) و كان القول الشعري في هذه المرحلة يتجاوز وظيفة التعبير عن مشاعر الشّاعر و أحاسيسه أو تمجيد مآثر القبيلة و بطولاتها، ليكون ذا بُعد قدسيّ يتّصل بدور الكلمة ( المعلّقات: أجود القصائد التّي كانت تُكتبُ بماء الذّهب و تُعلّق على جُدران الكعبة / الكلمة حسب التصوّر القديم فعل خلق و تكوين: الشعر بهذا المعنى يضطلع بوظيفتي الخلق و البعث ) و ذا بُعد حضاريّ ( الشّعر مُحدّد هويّة العربيّ فهو يختزن تاريخه و عاداته و ثقافته و لغته و قيمه...: هذا ما يُفسّر قولهم: " الشّعر ديوان العرب " )
و قد استمرّ اهتمام العرب بالشّعر بعد حدث الإسلام، و الأدلّة على ذلك كثيرة، منها تلك النّصوص الشّعريّة التّي ارتقت إلى مصاف الإبداع و منها ذلك العدد الكبير من الشعراء المتميّزين ( أبو نواس، المتنبّي...)
هذا الوضع جعل العرب يتجاوزون إطار الممارسة الإبداعيّة و المُنجز الأدبي إلى إطار التنظير و التقنين و التقعيد.
و قد استفاد الشّعر العالمي من هذا الإبداع الشّعري العربي: ممارسة و تنظيرا
يقول " بوشكين " حول تأثير الشّعر العربي في الشّعر الأوروبي:"هناك عاملان كان لهما تأثير حاسم على روح الشّعر الأوربي هما : غزو العرب، والحروب الصليبيّة. فقد أوحى العرب إلى الشّعر بالنشوة الروحيّة ورقة الحبّ، والولع بالرائع والبلاغة الفخمة للشرق…هكذا كانت البداية الرقيقة للشعر الرومنطيقي."
يُعتبرُ " بوشكين " أكبر شعراء روسيا في القرن التّاسع عشر و أكثرهم حبّا للشّرق العربيّ و تأثّرا به. و قد وظّف هذا الشّاعر عناصر الغزل العذريّ في الشّعر العربيّ ( قصيدة: " يا فتاة يا وردة، إنّني في الأغلال " )
يُعتبَرُ " غوته " من أعظم الشّعراء الألمان، تأثّرا بالشّعر العربي الإسلامي و بالقرآن. و قد نظم قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبيّ محمّد ( ص )
ii- الفنّ:
إنّ مُقاربة مسألة الفنّ عند العرب، تستوجبُ بداهة الإشارة إلى تأثّر تطوّر هذه الظّاهرة تاريخيّا بفهم النصّ الدّيني، ذلك أنّ كثيرا من الأحاديث النبويّة كانت " تستنكرُ " أو " تستهجنُ " بعض الممارسات الفنيّة من قبيل الرّسم و النّحت و الموسيقى.
و هو ما استوجب ردود أفعال كانت مُتّصلة بدرجة فهم النصّ الدّينيّ. فهناك من نظر إلى هذه النّصوص من باب التّحريم المُطلق و هناك من أرجعها إلى ظروف خاصّة قِيلت فيها ( حداثة عهد المسلمين بالإسلام ممّا جعل الرّسول ( ص ) يخشى أن تَصرِف هذه الفنون بعض المسلمين عن الإسلام )
لكنّ هذه السّمة التّي حدّدت تطوّر الفنّ عند العرب المُسلمين، لا يُمكن أن تحجب عنّا براعتهم الفنيّة و إبداعهم في بعض الفنون، و هذا ما ساهم في إثراء الإنسانيّة في هذا الصّعيد.
1- الموسيقى: ( فنّ سمعيّ )
اشتهر العرب منذ العصر الجاهلي بفنّ الغناء و الشّعر. فالشّعر الجاهليّ، بما امتاز به من موسيقى و إيقاع بسبب الأوزان و القوافي، قد منح العربيّ ذوقا رفيعا في الموسيقى و الغناء، و أذنا تتقبّل الإيقاعات التّي تتّفق مع ذوقه الموسيقي.
ثمّ تطوّر هذا الفنّ الموسيقي في ركب الحضارة العربيّة الإسلاميّة حتّى بلغ ذروة مجده. و إذا ما تطلّعنا إلى هذا التطوّر، فإنّنا نذهل لضخامة الإبداع الذّي أظهره العربيّ في هذا المجال من إتقان للسلّم المُوسيقي و الآلات الموسيقيّة.
و قد حقّق العرب مُنجزات كبيرة في علم الحِيَل و تقنية الآلات و جعلوا من صناعة الآلات الموسيقيّة فنّا رفيعا. فزلزل أدخل العود الشبوطي، و الزنام رسم آلة هوائيّة تُسمّى ناي زنامي، و أضاف زرياب إلى أوتار العود الأربعة وترا خامسا، و اخترع مضراب العود من قوادم النّسر بعد أن كان من مرهن الخشب. و في أواخر القرن التاسع الميلادي وضع أبناء موسى بن شاكر أسس الموسيقى الميكانيكيّة و قواعدها و استعملوا البريخ الموسيقي لتوزيع الألحان، هذه الموسيقى التّي لم تظهر بوادرها في أوروبا إلاّ في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. و في القرن العاشر الميلادي ابتكر الفارابي الربابة و القانون. و أمّا صفيّ الدّين عبد المؤمن الأرموي فقد اخترع القانون المربّع المسمّى نزهة و آلة أخرى تسمّى المغنى.
2- الرّسم: ( فنّ بصريّ )
كان مُعظم الفنّ الإسلاميّ خلال التاريخ الإسلامي عبارة عن فنّ تجريديّ مُمثّلا بالأشكال الهندسيّة و الزّهور و الأرابيسك و فنون الخطّ العربي. لا يشتمل الفنّ الإسلاميّ على الكثير من الرسوم لبشر بما في ذلك رسول الإسلام محمّد ( ص ). و ذلك يعود للاعتقاد الإسلامي المُبكّر بأنّ ذلك شكل من التمثيل يعود بالنّاس إلى الوثنيّة و عبادة الأصنام.
أهمّ سمات الفنّ الإسلامي هي الفلسفة التّي يقوم عليها من حيث الاعتقاد، فالمسلم يرى الله بقوّته و عظمته و رحمته هو مركز الكون و كلّ شيء يبدأ منه ليعود إليه. يُرى ذلك جليّا في استخدام النقوش المُتوالدة و المُتناظرة التّي تتمركز حول عُنصر لتدور و تعود لنفس التكوين.
الفنّ الإسلاميّ ليس فنّا دعويّا كما في المسيحيّة و لكنّه نفعيّ بالدّرجة الأولى، بمعنى أنّه يُحاولُ تجميل القطع النفعيّة للاستخدامات اليوميّة دُون قصد جعلها تُحفة موضوعة على رفّ الزّينة فقط.
· فنّ الخطّ: تتميّز الكتابة العربيّة بكونها متصلة ممّا يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المدّ والرّجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب. يعتمد الخط العربي جماليّا على قواعد خاصّة تنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة، وتُستخدم في أدائه فنيا العناصر نفسها التّي تعتمدها الفنون التشكيليّة الأخرى. أخذت الخطوط العربيّة مناهج عدّة في التسمية. فسُمّيت إمّا نسبة إلى أسماء المدن كالنبطي والكوفي والحجازي والفارسي، أو أسماء مُبدعيها، كالياقوتي (المستعصمي)، والريحاني والرياسي، والغزلاني، كما سُمّيت أيضا نسبة مقادير الخط، كخط الثلث ثلث والنصف والثلثين، إضافة إلى تسميته نسبة إلى الأداة التي تسطره، كخط لغبار، وكذلك نسبة إلى هيئة الخط كخط المسلسل.
تطوّر الخطّ العربيّ كان مُرتبطا بحاجة دينيّة: كتابة النصّ القرآني المُقدّس بأبهى حُلّة ( الخطّ العربيّ مُمارسة ترتقي إلى قمّة التجريد )
· فنّ الأرابيسك: الأشكال الهندسيّة الزخرفيّة التّي كانت تُطرّز المباني الإسلاميّة.
إنّ ما يُشير إليه مفهوم الأرابيسك هو ظاهرة معروفة أساسا في تاريخ الفنون الإسلاميّة، إنّها ظاهرة الابتعاد عن تمثيل الشخوص و الأرواح و الانحياز للألوان و الخطوط و الأشكال الهندسيّة الزخرفيّة. و معروف ما نتج عن هذا الابتعاد من فنون زخرفيّة و اهتمام بأنواع الخطّ أو التشكيل الحروفيّ ممّا نجد على أستار الكعبة المشرّفة و في ردهات الجوامع و القصور العربيّة في كلّ انحاء العالم الإسلامي.
هذه النّظرة إلى الفنون الإسلاميّة أدّت إلى مقارنات بينها و بين الفنون الغربيّة كالرّسم و النّحت فبالمقارنة برزت عناصر التجسيم و التمثيل أو المحاكاة في تلك الفنون بوصفها عناصر طاغية لدى الغرب، لا سيما في عصر النهضة الأوروبي، في مقابل غياب تلك العناصر عن الفنون الإسلاميّة. و كان طبيعيّا أن تتفرّع من تلك المقارنة مواقف مختلفة، ففي حين ظلّ الكثيرون يعتزون بفنون أوروبا و يرونها المثال الأعلى، كان هناك من يروْن في الفنون الإسلاميّة تفوّقا من حيث هي تمثّل إخلاصا للفنّ أو تجلّيا للفنّ الخالص. فحين تنتفي الطبيعة و ما يتّصل بها من أشكال إنسانيّة و حيوانيّة تنتفي علاقة الفنّ بما يخرج عن طبيعته. أي ينصرف الفنّ إلى كونه فنّا و تصير نظرتُه إلى الدّاخل. و قد لاقت هذه النظرة هوى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد حين طغى الاتّجاه الفنّي الخالص أو ما يُعرفُ بالفنّ من أجل الفنّ في أوروبا. و كان من أبرز ممثّلي ذلك الاتّجاه الكاتب الإيرلندي " أوسكار وايلد " الذّي وجّه نقدا حادّا لتاريخ الفنون الغربيّة من هذه الزاوية مُطالبا بالاقتداء بالفنون الإسلاميّة. قال وايلد إنّ الفنون تنحدر حين تسعى إلى التشبيه و التمثيل فتُحاكي الطبيعة، كما هو الحال في إيطاليا عصر النهضة، لكنّها تعلو حين تُخلصُ لذاتها فلا تُحاكي إلاّ نفسها كما تجلّى ذلك في الفنون الإسلاميّة أو الشرقيّة كما أسماها